Page 90 - web
P. 90
الإعلام و صناعة الجريمة مقالات وآراء
الخري والشـر سـنة كونيـة ،و معادلـة الوجـود والحيـاة ،فلا يخلـو أي مجتمـع مـن مكوناتهمـا، الدكتور /حمود بن نوار النمر
ولا وجـود للمدينـة الفاضلـة الأفلاطونيـة إلا في الخيـال العلمـي لعلمـاء الاجتمـاع ،والجريمـة
كأحـد وجـوه الشـر في هـذه الدنيـا ظاهـرة أو مشـكلة مـن المشـكلات الاجتماعيـة الضاربـة في استاذ علم الإجتماع المشارك بجامعة شقراء
القـدم ،فقـد ظهـرت منـذ ظهـور الإنسـان على وجـه الأرض ،وأي فـرد معـر ٌض للجريمـة ،متـى
90
مـا توفـرت الظـروف والعوامـل المؤديـة لوقوعهـا.
في تفسري علمـاء الاجتمـاع والعلـوم النفسـية للجريمـة وأسـبابها والعوامـل المرتطبـة بهـا و ُسـبل
المواجهـة ،تقـدم المدرسـة الفلسـفية أُطـ ًرا ذات بعـد فلسـفي كإحـدى المحـاولات الجـادة في سبر
أغـوار الجريمـة وربطهـا كينونتهـا بالأخلاق ،وفي المقابـل تقـدم النظريـات الاجتماعيـة النفسـية
من خلال الدراسات التجريبية تفسير الجريمة من منطلق التفاعلات بين الأفراد والجماعات
والمكونـات الاجتماعيـة والإمكانـات الماديـة لـكل مجتمـع والدوافـع الشـعورية و اللاشـعورية،
والجوانـب الفسـيولوجية كالبنيـة الجسـدية .
في موضـوع صناعـة الجريمـة وعلاقتـه بالتوسـع الهائـل والكبري في اسـتخدام وسـائل الإعلام
التلقيديـة والحديثـة على مسـتوى العالـم ،تقـدم نظريـة التقليـد تفسر ًيا للسـلوك الإجرامـي
قائ ًمـا على عامـل التقليـد وأن الإنسـان بطبعـه يميـل لتقليـد الغري ،وبالتـالي يتأثـر بمـا ُيشـاهده
مـن مشـاهد عنيفـة في الواقـع أو في وسـائل الإعلام ،فيمـا تؤكـد نظريـة الارتبـاط الفارقـي
أن السـلوك المنحـرف سـلوك مكتسـب ،فالمجـرم ُيصنـع مـن خلال التعلـم عـن طريـق وسـائل
الاتصـال بأنواعـه المختلفـة ،وخاصـ ًة الاتصـال اللفظـي ،وفي المقابـل يـرى أصحـاب نظريـة
الطبقـات الاجتماعيـة والاختيـارات المنحرفـة أن صناعـة الجريمـة مرتبطـة بالإحبـاط الـذي يشـعر
بـه الفـرد نتيجـة لمنغصـات الحيـاة المختلفـة ،فكلمـا زاد الإحبـاط عنـد الانسـان كان مهيـأً لارتـكاب
الجرائـم ،وتـرى نظريـة الانحـراف والبنيـة الاجتماعيـة أن إشـباع المراهقين بالقيـم المناقضـة لقيـم
المجتمـع يجعـل البنيـة الاجتماعيـة والثقافيـة متفتحـة على التأثريات والتيـارات الفكريـة المتلاقيـة
و المتناقضـة ،وهـذا الـدور تقـوم بـه في الغالـب وسـائل الإعلام المختلفـة.
و ُتعـد نظريـة التعلـم الاجتماعـي (نظريـة التعلـم بالملاحظـة) لألبرت بانـدورا مـن أبـرز النظريـات
التـي سـعت إلى تفسري أسـباب السـلوك الإجرامـي ،وجعلتـه قائمـاً على ماهيـة اسـتجابة
الفـرد للمتغريات الاجتماعيـة والبيئيـة حولـه وتفاعلـه معهـا ،ويـرى أصحـاب هـذه النظريـة
أن السـلوك الإجرامـي مـا هـو إلا نتيجـة مكتسـبة بالتعلـم ،فالإنسـان بفطرتـه لا ينشـأ مجرمـاً
بـل يتعلـم الإجـرام عـن طريـق الملاحظـة أو التجربـة ،وهـذا الاتجـاه يوضـح الـدور الـذي يلعبـه
الإعلام في صناعـة الجريمـة ،فطريقـة تعاطـي الإعلام وتناولـه للجرائـم وإبـراز العنـف الدائـر في
المجتمـع ،وفي بعـض الأحيـان التعاطـف الإعلامـي مـع المجرمين وتصويرهـم كأبطـال ،كل ذلـك
يـؤدي إلى صناعـة مجـرم صغري ُتشـكل مشـاهد العنـف والجريمـة شـخصيته وتلـوث سـمعه
وبصـره بمشـاهد العنـف والجريمـة.
وفي دراسـة لعالـم الاجتمـاع الفرنسي بيري بورديـو يؤكـد التأثري القـوي للمـادة التلفزيونيـة على
المشـاهد مـن خلال التلاعـب بالعقـول وتضمين مشـاهد العنـف الرمـزي ،وترسـيخ الممارسـات
والأفـكار العنصريـة والعدوانيـة ،ممـا يـؤدي حتمـاً إلى ممارسـة سـلطة غري مرئيـة ومتحكمـة
بالقلـوب والمشـاعر والغرائـز ،وبحسـب بورديـو فـإن هنالـك صعوبـة في الخـروج مـن مجـال تأثري
هذه السلطة الخاضعة للمنطق التجاري البحت ،فوسائل الإعلام تتمادى في وصف تفاصيل